يمر العالم العربي من مشرقه إلى مغربه ومن خليجه إلى محيطه بواحدة من أكثر مراحل تراجعه وتأزمه. في كل قمة عربية نكرر بلا كلل ولا ملل «تعقد القمة العربية في مرحلة صعبة ومعقدة وفي ظروف استثنائية..»… ولا جديد في قمة الجزائر ـ التي نجحت مبادرتها بجمع شمل الفصائل الفلسطينية قبل أسابيع من القمة العربية في الجزائر ـ لتحاول ثانية في القمة العربية، إلا أن الشتات العربي أكبر من مصالحات قد تخرق ولا تلتزم الأطراف ببنودها كما حدث مراراً على وتكراراً.
منذ قرار عقد القمة العربية 31 في الجزائر كانت التوقعات منخفضة بأن تحقق الاختراق المأمول، من شعارها القمة «قمة جمع الشمل» العربي، وفي الشعار دلالات مؤلمة أن شمل العرب منقسم ومتفرق وبحاجة ليلتئم لوضع حد للصراعات والخلافات في قمة لم يتجاوز وقت عقدها ومناقشة ملفاتها المعقدة والمزمنة 24 ساعة من مساء 1 نوفمبر/ تشرين الثاني حتى مساء 2 من الشهر نفسه، وغاب عنها نصف القادة العرب لأسباب مختلفة. وهذه دلالة على كيف يتعامل العرب مع قضاياهم المصيرية. سبق عقد القمة تصعيد وقطع العلاقات بين المغرب والجزائر على خلفية الخلافات المتعلقة بالصحراء الغربية وجبهة البوليساريو وهو خلاف قديم يعود لمنتصف سبعينيات القرن الماضي، لم تنجح جامعة الدول العربية التي يطالب العرب في كل قمة برغم الخطب الإنشائية المكررة بتحسين أحوال الشعوب العربية، ولا تفعيل دور الجامعة العربية، فنفشل ونرحل الأزمات للقمة التالية.
عُقدت القمة العربية بعد غياب ثلاثة أعوام بسبب تداعيات فيروس كورونا، وفي ظل متغيرات دولية وإقليمية وعلى مستويات مختلفة لم تكن موجودة قبل ثلاثة أعوام. وفي وقت يشهد النظام العالمي تحولات جذرية بتحوله إلى نظام متعدد الأقطاب. بصعود الصين وروسيا، مصحوباً بأزمة الطاقة والأمن الغذائي نتيجة تداعيات تسعة أشهر من حرب روسيا على أوكرانيا. وبرغم حالة الاستقطاب والتشكيك بنجاح الجزائر استضافة «قمة لم الشمل» في ظل تنامي الخلافات وصلت لقطع العلاقات بين المغرب والجزائر في أغسطس/آب 2021 وتبعه حظر الجزائر تحليق الطيران المغربي المدني والعسكري فوق الأجواء الجزائرية، بعد شهر من قطع العلاقات الدبلوماسية، (وللمفارقة تطبع المغرب مع إسرائيل) بررت الجزائر تلك الإجراءات غير المسبوقة بسبب استفزازات وممارسات المغرب العدائية» دون توضيح أكثر، لكن الواقع أنه بسبب الخلاف حول الصحراء الغربية والبوليساريو.
فيما نشهد مراوحة بل تراجعا للدور والحضور العربي، نشهد في المقابل تعاظم قدرات القوى الإقليمية غير العربية. إسرائيل المأزومة سياسياً شنت منذ 2019 حربين على غزة وانتخبت خمس حكومات وازدادت تطرفاً وفاشية بانتخاب، تزامناً مع قمة الجزائر، برلمانا (كنيست) هو الأكثر تطرفا حتى صار حزب الصهيونية الدينية العنصري الفاشي ثالث أكبر الأحزاب عدداً في الكنيست. ومنذ القمة العربية في تونس شنت إسرائيل حروبا على غزة، والضفة الغربية مؤخراً وزادت من تهويد القدس، وخسر نتنياهو وفاز وعاد ليرأس عتاة المتشددين ليشكل أكثر حكومة يمينية متطرفة مع الأحزاب الدينية الفاشية في إسرائيل. وعاد نتنياهو وفريقه المتطرف ليوغل أكثر في إبادة ممنهجة للفلسطينيين، ليضيف لـ 200 شهيد فلسطيني قتلتهم آلة القتل الصهيونية بدم بارد منذ مطلع العام!
بينما تستمر إيران بالتصعيد وبتهديد الأمن القومي العربي، وصل الأمر عشية القمة العربية لتبادل معلومات استخبارية بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية عن احتمال شن إيران هجمات ضد أهداف في السعودية وأربيل في كردستان العراق. بالإضافة إلى مأزق تعثر مفاوضات العودة للاتفاق النووي مع الولايات المتحدة والقوى الكبرى، وتدخل إيران لجانب روسيا في حربها على أوكرانيا بالدعم السياسي والمسيّرات الانتحارية الإيرانية (شاهد 136) التي تدمر البنى التحتية ومنشآت ومحطات الكهرباء في أوكرانيا. وحتى اتهام واشنطن بعزم إيران تزويد روسيا بالصواريخ والتلويح بمزيد من العقوبات.
وتوسع تركيا حضورها في العالم العربي أمنياً وعسكرياً واقتصادياً خاصة بعد زيارات متبادلة بين قيادات تركيا والسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ووعود باستثمارات كبيرة في الاقتصاد والسوق التركيين.
منذ القمة العربية الثلاثين عام 2019 في تونس حُلت الأزمة الخليجية عام 2021 ـ وطبّعت أربع دول عربية مع إسرائيل فيما يعرف باتفاق إبراهام في خرق واضح للمبادرة العربية في القمة العربية عام 2002 في بيروت، التي أكدت على انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي العربية المحتلة مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل. واللافت تجنبت القمة العربية التعليق أو انتقاد أو دعم تطبيع دول عربية مع إسرائيل، والتدخلات الإقليمية في القضايا العربية، وهذا يُعد سقطة للقمة العربية.
وكرر العرب في قمة الجزائر التمسك بشعارات مكررة في الخطاب العربي العقيم: التأكيد على مركزية القضية الفلسطينية والعمل العربي المشترك. وأضافوا الإشارة إلى المبادرة العربية التي خرقتها دول عربية. وتنجب القادة والبيان الختامي الإشارة للخلافات العربية ـ العربية، بل طالب البيان الختامي للقمة التعاون العربي لحل الأزمات العربية.
وبرغم تأكيد بيان قمة الجزائر الدفع بالعمل العربي المشترك وسط كل تلك الحروب والصراعات العربية ـ العربية لكن للأسف نشهد تراجعاً في الشأن العربي وصراعات داخلية. هناك حكومتان وجيشان وبرلمانان في ليبيا، وحرب أهلية طاحنة في اليمن وانهيار اقتصادي وفراغ سياسي ورئاسي وحكومي في لبنان!
من المؤسف المراوحة وتكرار خطب وبيانات تستمر بوضع مياه قديمة في قوارير جديدة، وغياب الخطط الاستراتيجية في التصدي للتهديدات المتعاظمة للأمن القومي العربي. وبرغم تلك التهديدات لا تفكير ببلورة مشروع عربي وبينما للأسف لا يملك العرب مشروعاً ولا رؤية ولا خططا لبلورة مشروع عربي جامع يوازن ويمنع ويردع مشاريع القوى الإقليمية غير العربية. بل بالعكس نشهد مزيدا من الصراعات والخلافات العربية – العربية. متى نتعلم من استنزاف أزماتنا وصراعاتنا، وآخرها الأزمة الخليجية وحصار قطر لثلاثة أعوام ونصف العام، وخساراتنا الجماعية؟
أنقر هنا لقراءة المقال من مصدره.