اتّجهت أنظار العالم أجمع إلى الأمم المتحّدة في نيويورك، حيث انعقدت اجتماعات الدورة الثمانين للجمعية العامة في 24 أيلول / سبتمبر 2025، وسط صراعات وأزمات دولية ونزاعات أهلية مختلفة وحروب متنوّعة، لعلّ أهمّها حرب الإبادة التي تتعرّض لها غزّة بعد عملية "طوفان الأقصى" منذ السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023، إضافة إلى الحرب الروسية – الأوكرانية المندلعة منذ 24 شباط / فبراير 2022.
ومن المفارقات الغريبة أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تحدّث لمدّة 55 دقيقة متجاوزًا الحد المسموح به وهو 15 دقيقة، وخصّص الجزء الأكبر من خطابه للتباهي بإنجازاته، ثمّ عاد إلى تقريع العديد من دول العالم، بمن فيهم حلفاء واشنطن، مثل دول الاتحاد الأوروبي، صابًا جام غضبه على الأعداء مثل فنزويلا، ولم ينس أن ينتقد الصين والهند لشرائهم النفط من روسيا، مثلما انتقد حلفاء واشنطن في حلف الناتو لاستمرارهم في شراء الطاقة الروسية، وحثّ أوروبا على تكثيف الضغوط على موسكو لوقف حربها في أوكرانيا، وانتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتعهّد بأن يعمل بشكل مكثّف لإنهاء الحرب في أوكرانيا، وأشار إلى قوّة الولايات المتحدة لضرب المواقع النووية الإيرانية.
وانتقد سياسة الأمم المتحدة وعددًا من الدول بشأن تغيّرات المناخ، وخاطب الدول التي ترحّب بالمهاجرين بقوله "أنتم تدمّرون بلدانكم"، فأوروبا بورطة كبيرة على حدّ زعمه بسبب غزو المهاجرين غير الشرعيين، وطالبها بوضع حدّ للهجرة فورًا، وإلّا فإن بلدانهم "ستذهب إلى الجحيم".
وتحدّث ترامب عن منجزاته التي ذكرها بزهو كبير، متفاخرًا بأنه تمكّن من إنهاء سبع حروب خلال سبعة أشهر في كمبوديا، وكوسوفو وصربيا، والكونغو ورواندا، وباكستان والهند، وإسرائيل وإيران، ومصر وأثيوبيا، وأرمينيا وأذربيجان. وقال في معرض مقارنة نفسه برؤساء أخرين أو دول أخرى "ما من رئيس ولا حتى أي دولة أنجزت ما يشبه ذلك، وهذا لم يحدث أبدًا في التاريخ".
وكرّر الرئيس الأمريكي انتقاداته إلى الأمم المتحدة التي "لم تحاول المساعدة في أي من هذه الحالات" مقارنًا دور واشنطن الفاعل بدور الأمم المتحدة التي تكتفي فيه بتوجيه الرسائل العالية النبرة، كما ذكّر العالم بأنه يجب منحه جائزة نوبل للسلام.
وبشأن الحرب المفتوحة على غزّة، قال إنه يعمل على إنهائها، متّهمًا حركة حماس بأنها رفضت العروض المتكررة التي قدّمها لتحقيق السلام، وطالبها بالإفراج عن الرهائن العشرين والجثث اﻟ 38.
الجدير بالذكر أن حماس وافقت على مقترحات الرئيس الأمريكي في 23 تموز / يوليو 2025، وهو ما أحرج رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي يريد الاستمرار بالحرب حتى تجريف غزّة بالكامل بزعم القضاء على حماس واستعادة الأراضي، خصوصًا وأن وقف الحرب يعني القضاء على مستقبله السياسي وإحالته إلى القضاء بموجب تهم فساد متعدّدة، لهذه الأسباب قام نتانياهو بارتكاب جريمة جديدة وهي سعيه لاغتيال المفاوضين في قطر "دولة الوساطة"، منتهكًا قواعد القانون الدولي والديبلوماسية العالمية والأعراف الدولية المعتمدة منذ اتفاقية ويستفاليا العام 1648.
وقد وافقت حماس مجدّدًا مع بعض التحفظات على خطّة الرئيس ترامب الجديدة (مطلع شهر تشرين الأول / أكتوبر الجاري)، ويُفترض أن تتمّ الاستعدادات لتنفيذها بعد إعلان الجانب الإسرائيلي موافقته عليها، ودعت الحكومة المصرية إلى استضافة لقاء فلسطيني لمناقشة خطّة ترامب.
ومع أن ترامب يعلن الخطّة تلو الأخرى بشأن وقف حرب الإبادة على غزّة، إلّا أنه يُلقي مسؤوليتها على حماس والفلسطينيين، ويذهب بعيدًا في انتقاد الدول التي بدأت تُعلن عن اعترافها بالدولة الفلسطينية، حيث وصل عدد الدول التي تعترف بدولة فلسطين إلى 151 دولة من أصل 193 دولة عضوةً في الأمم المتحدة، واعتبر أن ذلك مكافأةً للإرهاب ولحركة حماس التي ترفض وقف إطلاق النار على حدّ تعبيره، علمًا بأن إسرائيل هي التي ظلّت ترفض وقف إطلاق النار.
وإذا عدنا إلى الولاية الثانية لعهد ترامب فسنلاحظ غرابة ديبلوماسيته اللّاديبلوماسية، فقد طالب أوكرانيا بتوفير المعادن النادرة للولايات المتحدة مقابل 300 مليار دولار قدّمها لدعم حربها ضدّ روسيا، وأوقف المساعدات لجنوب أفريقيا، واتّخذ عقوبات ضدّ عاملين في المحكمة الجنائية الدولية، وفرض رسومًا على الصين وعدد من دول العالم، ووعد بتحويل غزّة إلى ريفييرا الشرق الأوسط، وانسحب من بعض مؤسسات الأمم المتحدة، وطالب بجزيرة غرينلاند ووضع اليد على قناة بناما، وكلّ ذلك كان خارج دوائر الديبلوماسية المعروفة واتفاقية فيينا بخصوص العلاقات الديبلوماسية لعام 1961 وقواعد القانون الدولي المعترف بها.
يمكن وصف خطاب الرئيس ترامب في أكبر محفل ديبلوماسي (الأمم المتحدة) بأنه لم يكن يتحلّى بالحدّ الأدنى من اللياقة الديبلوماسية ولا يتمتّع بالكياسة الضرورية في مثل هذه المنتديات، فاجتماعات الجمعية العامة، هي أقرب إلى منتدى دولي فيه قدر كبير من اعتماد اللغة الديبلوماسية للدفاع عن مصالح الدول والترويج لسياساتها، وهو ما لا يدركه رجل الصفقات التجارية.
لعلّ ترامب هو الرئيس الأمريكي الأول الذي عبّر بشكل غير ديبلوماسي عن ديبلوماسية القوّة وقهر الآخر وإذلاله وتسويق أعماله العدوانية والنيل من الضحايا، كما هو مع سكّان غزّة، مبررًا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو كلّ ما قام به من حرب إبادة أدانها العالم أجمع.
