يأتي خطاب العرش، الذي ألقاه الملك محمد السادس، مساء اليوم الثلاثاء، ليؤكد مرة أخرى على ثبات الرؤية الإصلاحية للمملكة، وإصرارها على جعل التنمية شاملة ومتوازنة، لا تقتصر على الأرقام والمؤشرات، بل تمتد إلى عمق الحياة اليومية للمواطن المغربي.
لقد وضع الخطاب خريطة طريق واضحة، تستند على أسس ثلاث: الاستمرار في تثبيت موقع المغرب ضمن الدول الصاعدة، ربط النمو الاقتصادي بتحسين ظروف عيش المواطنين، وإحداث نقلة نوعية في التنمية المجالية، وهي رؤية لا يمكن إلا أن تجد صدى إيجابيًا لدى كل مواطن يتطلع إلى عدالة اجتماعية ومجالية حقيقية.
أبرز الخطاب ما تحقق من إنجازات اقتصادية وهيكلية: من نهضة صناعية غير مسبوقة، إلى مضاعفة الصادرات، خاصة في قطاعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة، وصولاً إلى انخراط المغرب في شراكات دولية مع أكثر من 3 مليارات مستهلك حول العالم.
لكن، وبنبرة صريحة، لم يغفل الملك التأكيد على أن هذا النمو لن يكون ذا معنى ما لم ينعكس بشكل مباشر على معيش المواطن، في القرى كما في المدن.
الرسالة الأهم في الخطاب كانت الدعوة إلى تجاوز مقاربات التنمية التقليدية، نحو تنمية مجالية مندمجة، تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية وتقطع مع مغرب السرعتين.
الملك وجه الحكومة لإطلاق جيل جديد من برامج التأهيل المجالي، تُبنى على التكامل بين الجهات والتضامن بينها، وتضع التشغيل، والخدمات الاجتماعية، وإدارة الموارد، في قلب أولوياتها.
هذه الدعوة تحمل تحذيراً ضمنياً من استمرار الفوارق الصارخة بين مناطق تزدهر بفضل مشاريع كبرى، وأخرى لا تزال غارقة في التهميش والحرمان. الخطاب يؤسس، بوضوح، لما يمكن تسميته بـ"عقد اجتماعي ترابي" جديد.
الخطاب لم يغفل الجانب السياسي، حيث شدد على أهمية احترام الأجندة الدستورية للانتخابات التشريعية، داعياً إلى تحضير جيد ومبكر يضمن الشفافية والانخراط المسؤول. هذه الرسالة موجهة للفاعلين السياسيين لتجاوز منطق الحسابات الضيقة، والاستعداد لمرحلة جديدة من الفعل العمومي، عنوانها الفعالية وربط المسؤولية بالمحاسبة.
أما على مستوى العلاقات الخارجية، فقد جدد الملك موقفه الثابت تجاه الجزائر، مؤكداً على استعداد المغرب لحوار صادق ومسؤول، في وقت تستمر فيه دعوات التقارب المغاربي في الاصطدام بجدار الجمود.
وفيما يتعلق بقضية الصحراء، أعاد التأكيد على التشبث بمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الحل الواقعي الوحيد، مذكراً بالدعم المتزايد الذي تلقاه دوليًا.
ختاماً، إن خطاب العرش لهذا العام ليس مجرد سرد لإنجازات أو عرض للنوايا، بل هو بيان توجيهي شامل يرسم ملامح مغرب الغد: مغرب التنمية العادلة، والجهات المتكاملة، والمواطن المكرم في معيشه، والمنفتح بثقة على محيطه.
إنه خطاب يبقي الأمل حيًا، لكنه في الوقت ذاته يحمّل الجميع مسؤوليات ثقيلة: حكومةً، مؤسسات، ونخبًا سياسية واقتصادية، لأن اللحظة التاريخية لا تحتمل مزيدًا من التأجيل أو التردد.
