في الثامنة والثمانين من عمره، لا زال عبد اللطيف الجواهري، والي بنك المغرب، يشتغل بكفاءة عالية وبجهد ملحوظ وبروح تطغى عليها نسبة عالية من الذكاء المرح، رغم العبء الثقيل الذي ينوء به في منصبه الحرج جدا كوالٍ لبنك المغرب.
وُلد الجواهري في مدينة فاس بتاريخ 10 يونيو 1939، وكان والده يشغل مهمة محتسب ومراقب أسواق بفاس.
يتميز الجواهري بكونه درس في جامعات المغرب وتخرج منها، حيث درس القانون بالرباط، قبل أن يبدأ مشواره المهني سنة 1962 كمتدرب بفرع بنك المغرب بالرباط وهو فقط ابن 23 سنة، لينجح بعد ذلك بعام واحد في امتحان التفتيشية ويعين رسميا ليكون ذلك أول عهده ببنك المغرب الذي سيعود له بعد ذلك بسنوات طوال.
من المال إلى السياسة
حوالي سنة 1970 سيكون الجواهري على موعد مع منصب جديد كرئيس قسم في مصلحة الأبناك ببنك المغرب، وهي المصلحة التي ستصبح لاحقا حاملة لاسم "مديرية الأبناك" لينتقل معها الجواهري من رئيس قسم إلى مدير، قبل أن يعين سنة 1974 على رأس مديرية القروض داخل أروقة البنك ذاته.
ومن المال إلى السياسة، ونظرا لاجتهاده الملحوظ وشخصيته المميزة، سيعيّن عبد اللطيف الجواهري وزيرا منتدبا لدى الوزير الأول مكلفا بإصلاح المؤسسات العمومية وذلك في أكتوبر من سنة 1978، في حكومة الوزير المعطي بوعبيد آنذاك.
وتزامنا مع الاحتجاجات الشعبية التي عاشتها عدد من المدن المغربية، على رأسها الدار البيضاء، بسبب غلاء المعيشة، إثر دخول برنامج التقويم الهيكلي حيز التنفيذ تطبيقا لتوصيات البنك الدولي، سيعين الجواهري في أحرج وأكثر المناصب حساسية وهو منصب وزير المالية، والذي سيستمر فيه إلى غاية سنة 1986.
وخلال الفترة سالفة الذكر، عايش الجواهري حكومتي كل من المعطي بوعبيد وكريم العمراني، ونجح بجدارة في قيادة المرحة وتدبير أزمة التمويلات الخارجية وأزمة الدين من خلال المفاوضات التي أجراها مع الدائنين من أجل إعادة جدولة الديون المستحقة على المغرب.
ورغم نجاحه في تدبير هذه المرحلة الصعبة في تاريخ المغرب إلا أن الجواهري قال عنها في لقاء صحافي: أفضل أن أتناول الخبز والزيتون على أن أعيش تلك الأوضاع مجددا، والتي لا أتمناها لأحد.
مرهم الجروح والأزمات
ومباشرة بعد هذه التجربة الحكومية، وفي أبريل من سنة 1986 سيصبح عبد اللطيف الجواهري رئيسا مديرا عاما للبنك المغربي للتجارة الخارجية، والذي كان مؤسسة مالية تابعة للدولة، قبل أن يكون للرجل دور في خوصصته سنة 1995.
وفي نفس الفترة، أي بين 1986 و1995، انتخب الجواهري رئيسا لتجمع المهنيين لبنوك المغرب، واعتبر أب القانون البنكي الذي صدر سنة 1993.
ولأن الجواهري أصبح مثل المرهم الذي يوضع على الجروح فتلتئم، عيّن سنة 2002 رأس صندوق "CIMR" المكلف بتقاعد القطاع الخاص، حيث قام بحملة لإصلاح نظام المساهمات بعد أن كان الصندوق مهددا بالإفلاس.
بعدها بسنة فقط، سيعود الجواهري إلى بيته الأول بنك المغرب، حيث سيعينه الملك محمد السادس واليا عليه، لأن المرحلة كانت تحتاج إليه من جديد.
لا زال الجواهري يشغل نفس المنصب إلى يومنا هنا، وقد مر بأزمات عديدة تجاوزها بسبب خبرته الكبيرة جدا وطبيعته التي تجد أفضل الحلول لأسوأ الأزمات وفي أسوأ الأوضاع.
فقد عاصر الجواهري أزمة القروض الرهنية التي هزت العالم سنة 2008، ثم أزمة السيولة سنة 2012، كما قرر في جرأة نادرة سنة 2017 تحرير سعر صرف الدهم.
يؤمن الجواهري بشكل جازم بعقيدة التوازنات الماكرو اقتصادية التي يعتبرها هي الأصل، كما يعتبر أن الزيادة من الحد الأدنى للأجور يجب أن ترافقه زيادة في الإنتاج وإلا فسيكون بدون جدوى.
تتويجات واحتكاك بالسياسيين
حصل الجواهري على أكثر من تكريم وجائزة بحيث يصعب إحصاؤها جميعا، فقد صنفته أمريكا من أفضل 10 محافظي البنوك المركزية، أربع مرات متتابعة، كما كان آخر التتويجات سنة 2019 كأفضل بنكي مركزي بإفريقيا سنة 2019 من طرف مجلة "The banker" اللندنية.
ويتميز الجواهري برؤيته الحديثة المواكبة للمستجدات قدر الاستطاعة، حيث قال عن العملات الرقمية مؤخرا "في البداية كنا نحذر من خطر مثل هذه العملات على المستهلك وجهل طريقة استعمالها، لكن مع الوقت تبين أننا في حاجة إلى تأطير قانوني للعملات المشفرة والعملات الرقمية بالبنوك المركزية على الصعيد الدولي والوطني على حد سواء".
كان للجواهري احتكاك نادر بالسياسيين عندما تحدث، في يونيو من سنة 2021، عن الأحزاب السياسية وبرامجها، معتبرا أن الناس لم تعد تثق بهاته التي وصفها حينها بـ"الباكور والزعتر".
لكن خبرة السنين يصعب أن تمحى بتصريح أو بفلتة لسان، لذا آثر الجواهري التعامل مع ردود الفعل اللاحقة بالتجاهل، مدركا أن الأمر يتعلق بضجة عابرة لا أقل ولا أكثر.