في كل مكان في المغرب يحشد المغاربة، مواطنين ومؤسسات عامة وشركات خاصة، جهودهم لتوفير مواد الإغاثة. ومنذ الساعات الأولى للزلزال، كان لمروحيات الجيش المغربي الدور الأول في إيصال تلك المواد ومعدات البحث عن الناجين إلى القرى النائية التي يصعب الوصول إليها بالطرق الاعتيادية.
شيءٌ قال إن أهل هذا البلد، على قلب واحد. جربوا معا مآسي مماثلة في السابق، وتغلبوا عليها بتضامنهم، وبروح التسابق إلى فعل الخير، بلا منّة ولا حساب، ولا حتى طلباً لذكرٍ أو ثناء. شيءٌ يفعله المرءُ للضحايا من أجل أن يفعله لنفسه. هذا جزء راسخ في الثقافة الاجتماعية. هو الجوهرة، التي إذا احتكتها المُلمات، زادت نصوعا.
يحب المغاربة أنفسهم إلى حد الغرور، من دون أن يُظهروه. غنيهم وفقيرهم على حد سواء. يعرفون أن لهم في بلدهم من الإرث ما يصونهم ويصون تميزهم الاجتماعي والثقافي، حتى يبلغ حبُ النفس حدّه الأقصى بالتواضع فيه، وبالرضى.
وعلى الرغم من كل صلات المغرب بالغرب وعالمه الحديث، فإنه باقٍ على طبائعه وفولكلوره، حتى لكأنك، إذ تمشي بين الناس، ترى نفسك في متحف اجتماعي، بأزيائه، وطعامه، ولغته شديدة التهذيب. تسمع، كلمة “سيدي”، أو “سيدي لشريف” في كل تخاطب. كما تسمع كلمة “لَلّا” (أي “السيدة المبجلة” أو “صاحبة الأمر”، وهي كلمة أمازيغية الأصل) في التخاطب مع النساء، تعرفهن أو لا تعرفهن. حتى لتفهم أن كلمة “سيدي” التي تلحق بالكثير من الأسماء والأماكن، ليست تكريما يقتصر على المُخاطَب، ولكنها جزء من ثقافة التهذيب الاجتماعية. ولو كنت غريبا، فلسوف تجد نفسك “سيدا” في الانطباع العام، وعليك أن تملأ نفسك بعفة النفس واللغة.
والعطف، ذاك الذي يسعه أن يكسر الصخر، قبل أن يغمر القلب، سائد في عموم المسالك، في مزيج تكاد لا تعرف من أين يبدأ التدين فيه، أو إلى أين ينتهي بحكم الطبائع العامة.
ويحب المغاربة بلدهم، في النازلات وفي الصاعدات على حد سواء. ربما لأنه ليس كسائر البلدان. ولك أن تقول بطبيعة الحال، “إن كل بلد في الدنيا ليس كسائر البلدان”، وهذا صحيح. سوى أن المغرب قطعة حية من التاريخ، نفحة من روح الأندلس، أيقونة ثقافة وفقه وفكر، أو نهاية المدى، إذ يُطلُّ بفارع طوله على الأطلسي. وما من مدينة من مدنه إلا وتنطق بماضٍ يتقد، وإرثٍ مغرٍ، ومشهدٍ يقصُّ عليك حكايات لا تنتهي.
ويحب المغاربة ملكهم. ولكن، ليس لأنه مؤسسة “سلطة” بل لأنه مؤسسةُ وجودٍ وطني، ويحبونه لأنه مثالهم الأعلى ورمز هويتهم وتاريخهم، ولأنه يسوس السياسة إلى حيث تصب الماء في طاحونة المغرب. ومن طبيعة الحياة أن يحظى الأحدثُ في السلالة بالحبِ الأشد والولاء الأشد، لأنه تجسيد لما يتغير في المجتمع ولما ينتظر من المستقبل في آن معا. ولهذا السبب، فإن للملك محمد السادس مكاناً في كل نفس وقلب. وهو حاضر في النازلات، لأنه مصدر الأمل والرجاء، وحاضر في الصاعدات، لأنه رفعة التغني بالتفوق والنجاح.
بل ويحب المغاربة كل الدنيا. بلدهم لا أعداء له. ولا يكنّ لنفسه ولغيره إلا الخير. يطرق أبواب الحياة من أكثرها رغبة بالتعاون والصداقة. ويعرف المغاربةُ، في سرّهم، أن مَنْ يعرفهم، سوف يغرق، في النهاية، بهم. فيقترب ويُعلن!
ولكن المغرب بلدٌ يُحبُ نفسه، فيُحب. ذلك أصل من أصول الطبيعة. أن تحب نفسك، بتواضع العارف بما يملك، المطمئن إليها، والواثق من قدرتها، فإنك لن تشقى لترى الحبَّ في عيون الآخرين. في الأصل، لأنك تتيح لهم أن يروا فيك ما رأوا في أنفسهم فعزّ عليهم ألا تأخذهم النرجسية، أو ما لم يروا فيها فعزّ عليهم ألا يقربوك.
لهذا السبب، تقاطرت العروض من كل أرجاء العالم، لمد يد العون للمغرب في مواجهة عواقب الزلزال. القادر بالفعل وغير القادر. الغني والفقير. الجار والبعيد. الكل أراد أن يُظهر الحبَ بالمغرب، بشعبه، بطبائعه الطيبة، بروح التاريخ فيه، بثقافته وفولكلوره الثري، بأندلسيته الواثقة، بسلالات ملوكه، بأدارسته، بمرابطيه على الأطلسي، بموحديه، ومرينييه، وسعدييه، ومن ثم بعلوييه. شيء من قبيل 1200 عام لم تنقطع عن رسم فصول التاريخ، حتى أصبح لكل مدينة من مدنهم ذكر وأثر لم ينقطع. فاس ومكناس ومراكش والرباط والدار البيضاء وغيرها، إذ تنطق كل منها فصلا، فيبدو وكأنه فصلٌ مقيم.
اختار المغرب بضع بلدان فقط ليقبل منها العون، وشكر الباقين. شيءٌ من رسائل السياسة، كان هو ما يفوح من الاختيار. ليست الحاجةُ هي ما يحكم. ولو ترك المغرب لتضامن أهله ما كان ليحتاج أحدا على الإطلاق. فرق جمع المساعدات الأهلية من طنجة إلى العيون، تتزاحم من أجل أن يكون لها نصيب، فيما يرى الناس أنه عملٌ يقومون به من أجل أنفسهم؛ في خلاصةٍ تجمعُ تدينا وحبا، كما تجمع تواضعَ الطيّب وغرورَ المقتدر.
ليست الحاجةُ هي ما يحكم، بل المسلكُ الطيب، حيال مصالح بلد طيب. هذا هو كل ما في الأمر.
الحب كالسيل. ولكن قطرات نقيّة منه سوف تكفي.
شيءٌ طبيعيٌ أن تحبَ هذه البلاد، وأهلَها، على كل صورةٍ تصوَرتها لهم. ولكن، حيث أن هناك “سياسة” في كلِ عرضٍ وقبول، فإن المغرب يريد منها أن تستقيم مع ما يتوازى مع حبٍ نقي.
الجزائر، على سبيل المثال، كررت الطلب لترسل بعثات إغاثة. وكان ذلك موقفا كريما منها، يقتفي شغاف قلب كريم لشعب شقيق لا تُرضيه القطيعة. ولو أن العرضَ ترافق مع التفاتةٍ أخرى من طيبةِ القلب، لما كان للمغرب أن يتردد في أن “يطلب” من الجزائر أن ترسل ما “يحتاج” إليه! اللفتة الطيبة، في مناسبة جديرة بها.
وكان من حق الفرنسيين أن يشعروا بالضيق. عرضوا عونا، وقالوا إنه حبٌ وصداقة وتضامن. إلا أن عرضهم تم رفضه، لأسباب تفهمها باريس. وحار الألمان كيف يفسرون رفض عروضهم أيضا، هم الذين جهزوا الفرق، وأعدوا المعدات، وجعلوا تأهبهم قيد الإشارة. أرادوا فقط أن يعرفوا أين مطلوبا من طائراتهم أن تهبط.
الكل هناك يفهم، والمغاربة أنفسهم يفهمون. المغرب ليس بحاجة إلى مواد إغاثة، ولا معدات إنقاذ. والحب مشكورٌ إذا جاء كالسيل، ولكنه لا يكفي.
يتخذ المغرب، بملكه، وبثقة شعبه به، موقفا يتفهم الحب، يشكره، ويسعد به. إلا أنه لا يكتمل ما لم يأت على مقاس المحبوب!
أنقر هنا لقراة المقال من مصدره.