ضريبة اختيار الجسد.. العبور الجندري بالمغرب بين البوح والخوف 

 ضريبة اختيار الجسد.. العبور الجندري بالمغرب بين البوح والخوف 
آخر ساعة
السبت 3 يونيو 2023 - 16:53

في ظل غياب إحصاءات تقريبية أو رسمية لعدد العابرين جندريا بالمغرب، بسبب الخوف المجتمعي أو القانوني، شكلت مواقع التواصل الاجتماعي متنفسا لهذه الفئة وأخرجتها من الظل والصمت. حيث أتاحت هذه المساحة للعديد منهم/ن إمكانية الخروج للعلن، للتعبير عن اختياراتهم/ن ولو بأسماء وهويات مجهولة. 

ويندرج العابرون/ات جندريا في إطار ما يعرف بمجتمع الميم عين، الذي يضم المثليين/ات ومزدوجي/ات الميول الجنسي وثنائيي/ات الجنس بحسب منظمة الأمم المتحدة، التي أقرت 17 ماي من كل عام، يوما عالميا لمناهضة أفعال الكراهية ضدّ المثلية الجنسية وتعدّد الخصائص الجنسية والعبور الجندري.

النبذ.. ضريبة العبور

قررت دينا، 25 سنة، وهي تنحدر من مدينة أكادير جنوب المغرب، قبل ثلاث سنوات اتخاذ أبرز خطوة في عبورها من جسد ذكوري إلى أنثوي، وذلك بإجراء عملية جراحية في تركيا، بعد أن بدأت رحلة عبورها في المغرب عبر تناول الهرمونات الأنثوية.

وعن السبب الذي دفعها لإجراء العملية خارج المغرب، أشهرت دينا ديباجة الفصل 489 من القانون الجنائي المغربي الذي "يعاقب بالسجن والغرامة المالية كل من ارتكب أفعال الشذوذ الجنسي مع شخص من جنسه، ما لم يكن فعله جريمة أشد" موضحة أن هذا الفصل يُجرم كل ما له علاقة باختيارات مجتمع الميم عين، بما في ذلك العمليات الجراحية أو تعاطي الهرمونات التي يحصل عليها العابرون/ات من خارج المغرب عبر مجموعات خاصة ومغلقة على موقع الفايسبوك خاصة بهم/ن.

تقول دينا: "كذلك تضم هذه المجموعات نشطاء وناشطات حقوقيات، يتم التنسيق بيننا من أجل جلب جرعات معينة سواء من دول أوروبية أو من تُركيا، ويتم توزيعها على العابرين/ات المُحتاجين/ات".

تناول الهرمونات وإجراء العملية الجراحية لم يساعد دينا بالحصول على القبول في مجتمعها، حيث وجدت صعوبات جمة في الحصول على فرصة للعمل بسبب التعارض بين الوثائق الرسمية التي ما تزال تحتفظ بهويتها الذكورية السابقة، وشكلها الحالي الأنثوي وهذا ما حرمها من أبسط حقوقها في المؤسسات العمومية مثل الإدارات أو المستشفيات.

هذا إضافة لأنواع العنف الأخرى التي تتعرض لها، عن هذا تروي دينا "الحرمان من الحقوق هو واحد من أنواع العنف العديدة التي أتعرض لها بسبب عبوري، فأنا أتعرض بشكل دوري للتهديدات بالقتل عبر اتصالات ورسائل مجهولة تصلني بين حين وآخر".

كذلك تتعرض دينا لعنف لفظي وأحيانا جسدّي في الأماكن العامة، كما حدث معها في أحد مقاهي مدينة طنجة مؤخراً، حيث تعرضت لعنف لفظي سرعان ما تحول إلى عنف جسدي. يُضاف إلى هذا أيضاً عنف رقمي تحكي عنه دينا وتقول "تصلني دائما رسائل على حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي كُلها سب وقذف وتهديد بالقتل". 

وبخصوص تعامل السلطات الوصية مع الاعتداءات التي تعرضت لها أوضحت دينا أنه "في الغالب يتفادى أفراد مجتمع ميم تقديم شكايات لدى السلطات المغربية، لأنه من الوارد أن تنقلب ضدهم، ويتحولوا إلى متهمين بالفساد والإخلال العلني بالحياء العام". وهو فعل يعاقب عليه القانون المغربي بالفصل483 من القانون الجنائي الذي ينص على أن "من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء وذلك بالعرى المتعمد أو بالبذاءة في الإشارات أو الأفعال يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين وبغرامة من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم". 

ورغم مخاطر تحولها من ضحية لمُتهمة، تقول دينا إنها تقدمت بشكايات للسلطات، وتم رفعها لوكيل الملك بالمحكمة، لكن لم يسبق أن تم اتخاذ إجراءات جزائية في حق المعتدين، "بل فقط يتم تجميد الدعوة" بحسب قولها.

وتجزم دينا، أن الرفض هو موقف المجتمع من العابرين/ات جندريا، وهذا ما دفعها إلى مغادرة المغرب بصفة نهائية منذ حوالي سنتين، حيث تعيش في إسبانيا كلاجئة، بعد انقطاع علاقتها بأسرتها منذ وقت طويل.

ورغم ما حمله كلام دينا من حسرة إلا أنها ماتزال متأملة، تقول دينا "نأمل أن يتم إلغاء الفصول السالبة للحرية من القانون الجنائي المتعلقة بالحريات الفردية، وأن نستثمر في التعليم، عبر إدماج التربية الجنسية في المقررات، فلا سبيل لتغيير العقليات ووقف هذا الرفض والعنف المجتمعي إلا عبر التعليم". 

وحدك ضد الجميع  

"كنت أشعر دائما بأن فيّ شيء ما خاطئ" تقول تيما البالغة من العمر  25 سنة وهي تسترجع شريط حياتها بين دروب مدينة طنجة، مضيفةً "في مرحلة الطفولة كنت أتصرف كفتاة دون وعي أو إدراك لهذا التمايز بين الأنثى والذكر، كنت أحس أنني غير معنية باللعب مع الذكور أو  شراء ملابسهم أو ألعابهم، مقابل ذلك كنت أميل لكل ما هو أنثوي من صديقات وملابس وألعاب، وحينما كبرت أكثر أدركت أني أنثى في جسد ذكر، ورغم محاولات عائلتي ومجتمعي لكبح هذا الميول، إلا أنه ظهر مع الوقت". 

ونتيجة لهذا الظهور، خسرت تيما الكثير، وأول هذه الخسارات كانت العائلة، عن هذا تروي "ما إن أعلنت عن ميولي، انقطعت علاقاتي مع عائلتي، وقد مرت الآن حوالي أربع سنوات تقريبا دون أي اتصال، تشعر أنك وحدك، تحزن، تبكي، تستجمع القوى لتتحمل الرفض، أحيانا تفشل وأحيانا تتجاوز"، تحكي تيما ببحة صوتية أنثوية. 

هذه البحة هي أول "انتصارات" تيما في رحلة العبور، بفعل الهرمونات الأنثوية التي بدأت في تناولها على شكل حقن منذ عدّة أسابيع، منتظرة الوقت المناسب لتغادر المغرب من أجل  إجراء عملية تستكمل بها عبورها الجندري.

وكما دينا، تيما أيضاً تخشى من العُنف القانوني والإداري في المغرب، وتقول "في الكثير من الأحيان أتعرض للسخرية في الإدارات، كما يرفضون التعامل معي على أساس أن اسمي الذي وُلدت به يتنافى مع شكلي الأنثوي وبالتالي يتم منعي من حقوقي".

تعرضت تيما لرفض تسيير معاملاتها المالية في إحدى الوكالات الخاصة بحجة أنها تحمل بطاقة وطنية لا تخصها، وعندما حاولت الشرح "سخروا منها" كما تقول، فعبورها حوّل حياتها لمعركة دائما تبدأها مع الثانية الأولى التي تغادر فيها المنزل وحتى العودة إليه بحسب وصفها.

غالي نحو الضفة الأخرى من العبور

عكس تيما ودينا، عبر غالي  (29 سنة) لجهة الذكورة، يروي غالي "في طفولتي، دُهشت عندما اكتشفت أني أنثى ولست ذكرا ورفضت الاعتراف بذلك".

لكن إدراك غالي الحقيقي لذاته كان عندما ترك مسقط رأسه بمدينة تطوان وسافر نحو بلجيكا لاستكمال دراسته العليا في علم النفس، يقول غالي "آنذاك لم أكن أعرف معنى العبور الجندري، لكن كنت أستشعر أني ولد في جسد غير ذكوري، حكيت ذلك لأستاذتي المتخصصة في علم النفس، فقالت لي بأني عابر جندري، حينها بحث عن الموضوع وجدت أن جميع الصفات تنطبق علي". 

ورغم عدم وجوده في المغرب، إلا أن غالي دفع ضريبة عبوره الجندري، و فقد العديد من أقربائهومعارفه.ورغم ذلك ينظر غالي لوضعية العابرين جندريا بالمغرب وعلاقتهم بالمجتمع بكثير من الإيجابية ويقول "في وقت سابق كان هذا الموضوع من الطابوهات، لكن خلال السنوات الأخيرة ومن خلال الحديث عن هذا الموضوع إعلاميا وعلى مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، بدأ الوعي به أكثر وبدأ الناس يعرفون العبور الجندري ومعناه، وهذه خطوة كبيرة ومهمة في مسار التعريف بنا". 

إلا أن غالي ضم صوته لصوت دينا وتيما وأكد على أن القانون يظل العائق الأبرز في تسوية وضعية العابرين جندريا بالمغرب، وعن الحل يقترح "سن قوانين تحمي هذه الفئة وتضمن حقوقها على غرار قانون الحالة المدنية المتعلق بالأشخاص مزدوجي الانتماء الجنسي -خُنثى- الذين تم الاعتراف بهم وبحقوقهم، في حين نحن يتم تعذيبنا ومعاقبتنا على أشياء لا دخل لنا فيها بل ولدنا بها" بحسب قوله.

العنف القانوني 

المحامية غزلان ماموني تعتبر أن القانون الجنائي المغربي يمارس "العنف القانوني" على العابرين والعابرات جندريا، عبر الفصلين 483 و489، وتشرح "الفصل 483 يؤسس للعديد من المتابعات القانونية للعابرين جندريا بمنطق المس بالحياء العام، وحينما نقرأ محاضر الشرطة حول أساس المتابعة نجد مثلا أن -مشيته غريبة- أي أن  المواطن الذي مشيته غربية تتهدده عقوبة حبسية بين شهر واحد إلى سنتين، وغرامة مالية من مائة وعشرين إلى خمسمائة درهم".

وفيما يتعلق بمنع إجراء عمليات العبور الجندري بالمغرب، أوضحت ماموني أن ذلك راجع لمدونة الأسرة التي تُلزم على الأفراد هويتهم الجنسية، تقول المحامية "إذا ولدت واعتبرك الطبيب ذكر، ملزم عليك أن تعيش حياتك كلها كذكر، حتى ولو كنت تشعر بأنك في جنس مخالف، وهذا ما يجعل هذه الفئة تعيش صعوبات جمة من بينها الشق المتعلق بوثائق إثبات الهوية".

هذا الرفض القانوني للعابرين/ات جندريا بالمغرب ردته المحامية نفسها إلى "القوانين التي وضعها المستعمر الفرنسي، الذي قام بفرض القانون الجنائي الفرنسي لسنة 1810 على المجتمع المغربي، وهو القانون الذي يعادي كل ما له علاقة بالحريات الفردية تحت ما يسمى المس بالحياء العام والقيم، ويحمل نظرة نابوليون التي تنتصر لمجتمع مسيحي كاثوليكي على حساب اختيارات الأفراد، كما هو الشأن بالنسبة لتجريم الإجهاض" بحسب تعبيرها. 

وخلصت الماموني إلى أن السبيل الوحيد لضمان حريات أكبر للعابرين/ات جندريا هو إلغاء الفصول السالبة للحريات الفردية.

القانون أساسي لكن لا يكفي 

لكن الملائمة القانونية بما يتماشى مع ضمان الحريات الفردية "غير كافٍ" بحسب الفاعلة الحقوقية سعاد الشنتوف التي تؤكد بأن الحريات الفردية في المغرب مجال تشهد الكثير من  الخروقات. 

وأوضحت منسقة هيئة "المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع"، وهي هيئة استشارية لدعم الحضور النسائي في الشأن التدبيري بمدينة طنجة، أوضحت أن نصوصا كثيرة في القانون الجنائي المغربي المتعلقة بالاختيارات الفردية "تنطلق من مبدأ المعاقبة وليس الحماية" مشيرة إلى العديد من الأمثلة "من حرية الضمير المرتبطة بحرية المعتقد، مرورا بحرية تملك الجسد المرتبطة بالحق في الاجهاض، إلى التوجه والاختبار  الجنسي اللصيق بالفرد" بحسب تعبيرها. 

إلا أن الأكيد بحسب الشنتوف أن النص القانوني لن يحل لوحده هذا الإشكال الذي يتداخل في البعد الثقافي، "لكن أهمية النص القانوني تكمن في دور الدولة بضمان أمن وسلامة كل المواطنين والمواطنات على قدم المساواة بكل اختلافاتهم واختلافاتهن الدينية أو العرقية أو  الجنسية أو  الاجتماعية بما يتماشى وإحقاق مبدأ المساواة في التعامل مع الأفراد". 

ويدور في المغرب حالياً نقاش حول تعديل القانون الجنائي، وإمكانية تضمينه قوانين لصالح الحريات الفردية بحسب ما أشار له وزير العدل المغربي عبد اللطيف وهبي مؤخرا خلال استضافته في ندوة حول موضوع "الحريات الفردية بين القيم الكونية والثوابت الوطنية".

اعتبر وزير العدل في اللقاء أن الحريات الفردية تدخل في إطار المصلحة والوطنية والحاجة المجتمعية. لكن الشنتوف ترى أن ورش إصلاح القانون الجنائي "لن يأتِ بجديد، بالنظر لغياب الاشتغال في مجال التنشئة الاجتماعية على الشق الثقافي في بعده المتعلق بمبادئ العيش المشترك وقبول الاختلاف، وهي مجالات تتيح إمكانية ظهور ثقافة الفرد في بعدها الفلسفي المبنية على احترام اختيارات الأفراد بعيدا عن التنميطات".

ولكن من يتولى هذه المهام الثقافية بظل غياب المنظمات غير الحكومية الفاعلة بهذا الشأن؟

واقعٌ مدني سوداويٌ 

تُعد الجمعيات والمنظمات الحقوقية التي تدافع على مجتمع الميم عين في المغرب على رؤوس الأصابع،  بسبب عدم الترخيص لها من طرف السلطات، من بين هذه الجمعيات جمعية "أقليات" لمناهضة التمييز والتجريم تجاه الأقليات الجنسية، وهي منظمة مغربية غير حكومية، تدافع على حقوق وحضور الأقليات الجنسية داخل المجتمع المغربي.

الجمعية نفسها ترسم واقعا سوداويا للأقليات الجنسية بالمغرب، سِمته القمع والكراهية والاعتداء على أفراد مجتمع الميم  ومتابعتهم/ن قضائيا حيث يُعتبرون "مجرمين" وفق الفصل 489 من القانون الجنائي المغربي. وكتبت الجمعية في بيان نشرته بمناسبة يوم مناهضةرهاب المثلية والميل الجنسي ورهاب العبور الجندري قالت فيه "هذا القانون الذي يغذي يوميا حجم الكراهية والعنف الموجه لمجتمعنا المختلف جنديا وجنسيا"، مطالبةً السلطات المغربية بإلغاء الفصل 489 من القانون الجنائي المغربي، وإطلاق سراح كل المعتقلين(ات) المتهمين(ات) على خلفيته، مع دعوة مجلس النواب المغربي بتشريع قانون يجرم الكراهية والعنف تجاه أفراد مجتمع الميم واللاجئين(ات) والفئات الهشة، مع ضرورة إنصاف ضحايا العنف الرسمي والشهير ومعاقبة المتورطين فيه.